التوازن الجنسي في أولمبياد باريس 2024: النصر الحقيقي لم يحقق بعد
لأول مرة في تاريخ الأولمبياد الممتد على مدى 128 عامًا، تمكّن منظمو الألعاب من تحقيق توازن بنسبة 50% بين الرياضيين الذكور والإناث في دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024، حيث تمثل الدورة الأولى التي تحقق توازنًا كاملاً بين الجنسين في التمثيل الرياضي، مع مشاركة متساوية لكل من الرجال والنساء في جميع الفعاليات.
الدورة التي أُقيمت من 26 يوليو/تموز إلى 11 أغسطس/آب 2024، شهدت حضور 206 دول، و128 رياضة مختلفة، مما جعلها واحدة من أكبر دورات الأولمبياد من حيث التنوع والشمولية.
ومع تحقيق هذا التوازن النوعي، وفق الرئيس التنفيذي لخدمة نقل أحداث أولمبياد باريس يانيس إكساركوس، يقف المرصد الفلسطيني “تحقق” على حالات التنمر وخطاب الكراهية والمعلومات المضللة المتعلقة بالدورة الأولمبية، والأداء الرياضي النسائي على وجه التحديد.
معلومات مضللة بشأن الهوية الجنسية للملاكمة الجزائرية إيمان خليف
شككت وسائل إعلام غربية ونشطاء سياسيين ومؤثرون وصحفيون ومستخدمو منصات التواصل الاجتماعي في الهوية الجنسية للملاكمة الجزائرية إيمان خليف، حيث ادعوا بأنها رجل متحول جنسي، وليست أنثى بالأساس.
وأثيرت شكوك حول مستويات هرمونات الذكورة “التستوستيرون” لدى خليف، خلال هذه البطولة وفي البطولة السابقة عام 2023، حيث تم استبعادها من بطولة العالم للملاكمة للعام 2023 في نيودلهي، الهند، بناءً على قرارات سابقة تتعلق بمستويات “التستوستيرون”، لكن هذا العام منحتها اللجنة الأولمبية الدولية في باريس الضوء الأخضر للمشاركة في هذه الدورة.
لقد أثارت القضية حملة واسعة جدًا من التشكيك والتنمر ضد خليف، وتعرّضت لموجة من الانتقادات على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث طُرحت تساؤلات حول هويتها الجنسية واستُخدمت هذه القضية كأداة للهجوم والتشكيك في نزاهتها الرياضية.
ومنها الخبر الذي أوردته وكالة “فرانس برس” والذي تضمن تشكيكاً بهويتها الجنسية، وانطوت تغطيتها في هذا الخبر على خطاب الكراهية تجاه خليف، حيث نشرت خبرًا حول فوزها بالميدالية الذهبية في وزن 66 كلغ، واصفةً إياها بـ”المشكوك بهويتها الجنسية”، لكنها سرعان ما قامت بحذفه عن منصاتها، وأبقته على موقعها الإلكتروني، لتحذفه فيما بعد.
كما عززت شخصيات عامة مثل الرئيس السابق دونالد ترامب وإيلون ماسك مالك منصة “إكس”، والمؤلفة جي كي رولينج ادعاءات أن خليف رجل، حيث أدلى ترامب بهذا الادعاء خلال تجمع انتخابي في مركز مؤتمرات جامعة ولاية جورجيا في أتلانتا، جورجيا، في 3 أغسطس/آب الجاري، بالإضافة إلى أن المرشح لشغل منصب نائب الرئيس حال فوز ترامب في الانتخابات، جي دي فانس، شارك مقطع فيديو للمباراة عبر حسابه في منصة “إكس”، واصفًا خليف بأنها رجل، ومشيرًا إلى أن موقف كامالا هاريس بشأن الجنس يؤدي إلى نتيجة “مثيرة للاشمئزاز”.
الصحفي البريطاني بيرس مورغان كتب أيضًأ تعليقًا على فوز خليف، قائلًا: “لقد فاز رجل بيولوجي للتو بالميدالية الذهبية في الأولمبياد بالملاكمة النسائية تهانينا لكل من دعم هذه المهزلة”، لكنه تراجع عنه وقام بحذفه.
لم يقتصر الأمر على الشخصيات العامة، بل تبعه سيلٌ من التغريدات التي تحمل عبارات ومضامين لخطاب الكراهية والتنمر على خليف، مشككين بحقيقة جنسها وواصفينها بـ”الملاكم” بدلًا من الـ”الملاكمة”.
إيمان خليف إمرأة جزائرية وليست ذكر متحول جنسياً
إيمان خليف امرأة نشأت في ريف الجزائر، وجمعت الأموال لرحلة ستة أميال إلى أقرب صالة ملاكمة عن طريق بيع الخبز في الطرقات، ووصلت إلى أولمبياد طوكيو عام 2020 واحتلت المركز الخامس، ثم فازت بالميدالية الذهبية عام 2022 في بطولة إفريقيا لوزن خفيف الوسط، ولديها سجل إجمالي 9 -38 كلغ.
وقوبل أداؤها في دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024 بترحيب كبير من قبل الجماهير، لكنها سرعان ما واجهت جدلًا واسعًا بسبب قضية زعموا أنها متعلقة بمستويات “التستوستيرون”، بعد فوزها في المباراة الافتتاحية ضد الإيطالية أنجيلا كاريني، التي توقفت عن القتال بعد 46 ثانية.
لكن هذه الادعاءات تفتقر إلى الأدلة والسياق فيما يتعلق بمتطلبات أهلية الأولمبياد، وظروف الاستبعاد السابق لخليف، والافتقار إلى اختبارات الحمض النووي التي قالت رابطة الملاكمة الدولية إنها أجرتها، وهي غير مثبتة علميًا، فقد تنافست خليف دائمًا كامرأة؛ ولم تعلن أبدًا أنها متحولة جنسيًا، كما أن المتحدث باسم اللجنة الأولمبية الدولية مارك آدامز قال في إفادة صحفية في الثاني من أغسطس/آب الجاري إن الملاكمة الجزائرية ولدت أنثى، وسجلت كأنثى، وعاشت حياتها كأنثى، وتنافست كأنثى، ولديها جواز سفر أنثى.
وهو ما أكده رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ، حيث دافع بشدة عن مشاركة خليف في أولمبياد هذا العام، وقال لوكالة أسوشيتد برس إنه لم يكن هناك أي شك في كونها امرأة، وأنهم مستعدون للتحقيق في الأمر، ولكنهم لن يشاركوا في حرب ثقافية ذات دوافع سياسية في بعض الأحيان، على حد تعبيره.
ونددت اللجنة الأولمبية الجزائرية بالهجمات ضد خليف في بيان صدر في الأول من أغسطس/آب، بالقول: “إن محاولات التشهير هذه، القائمة على الأكاذيب، غير عادلة تمامًا، خاصة في وقت حاسم عندما تستعد للألعاب الأولمبية، ذروة حياتها المهنية. لقد اتخذت اللجنة الأولمبية والرياضية الجزائرية جميع التدابير اللازمة لحماية بطلتنا”، وفق ما ورد في البيان.
هو ما أكده تدقيق أجرته مؤسسة “USA Today“، والذي أفاد بأن خليف هي امرأة وليست متحولاً جنسياً، ولا تحدد هويتها على أنها خنثى، وفقًا لـ GLAAD وInterACT، إضافةً إلى أن المنظمات أكدت في ورقة حقائق صدرت بتاريخ 2أغسطس/آب الجاري أن خليف لديها اختلافات في التطور الجنسي، والمعروفة باسم “DSDs”، ووجود “DSD” ليس مثل كونك متحولًا جنسيًا، بل هي مجموعة من الحالات النادرة التي تنطوي على الجينات والهرمونات والأعضاء التناسلية والتي يمكن أن تتسبب في اختلاف النمو الجنسي لدى شخص ما عن غيره، وفي بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي هذا إلى أن يكون لدى الشخص كروموسومات XY ولكنه ينمو بشكل أنثوي، وفقًا لهيئة الخدمات الصحية الوطنية.
تصريحات بعض المعلقين الرياضيين والصحفيين عززت الصور النمطية والتحيز الجنسي
على الرغم من النجاح الواضح الذي للمتسابقات أثناء المنافسات، ما يزال بعض المعلقين يلقون بتعليقات عنصرية تعزز من الصور النمطية المنتشرة حول النساء وتؤطرها في قوالب معينة، على أثرها يتعرض هؤلاء المعلقين للانتقاد بسبب تعليقاتهم.
رصد فريق “تحقق” حالتين، الأولى حين أثار المعلق البريطاني “بوب بالارد” جدلاً واسعاً بتعليقه على أداء فريق السباحة الأسترالي في سباق التتابع 4×100 متر حرة، بعد فوز الفريق الأسترالي، حيث علق “بالارد” على الهواء بأن السباحات الإناث يذهبن لإصلاح ميكياجهن بعد الانتهاء من المنافسة.
على أثرها، تم إيقافه من “يوروسبورت”، ونشر تغريدتين عبر حسابه على منصة إكس، الأولى يقول فيها: “لم يكن من نيتي أبدًا إزعاج أو التقليل من شأن أي شخص، وإذا فعلت ذلك، فأنا أعتذر، أنا من أشد المؤيدين للرياضة النسائية”، أما الثانية يقول فيها: “سأفتقد فريق يوروسبورت بشدة وأتمنى لهم كل التوفيق في بقية الألعاب الأوليمبية”.
وعلى الرغم من اعترافه بخطئه، دعمته منصات مثل منصة “365Radio” عبر تغريده على حسابهم في منصة إكس، قالوا فيها إنهم يقدمون دعمهم المطلق له، وإن ردة الفعل على تعليقه كانت مبالغ فيها، وبرروا تعليقه على أنه مجرد “حس فكاهة”، وليس خطأً.
وفي حالة أخرى، بتاريخ 30 يوليو/تموز تم توجيه انتقادات شديدة للمعلق الفرنسي “أبرنارد جينين” من راديو “آر أم سي – RMC ” بسبب تعليقه الذي استخدم وصف “ربات منازل” لوصف لاعبة تنس، كنوعِ من التقليل منها، خلال مباراة الزوجي بين فريق فرنسا، المكون من كارولين جارسيا وديان باري، وفريق إيطاليا، المكون من سارة إيراني وجاسمين باوليني، حيث قال المعلق: “على اليسار، هناك سارة إيراني، وهي الرئيسة، إنها تقوم بكل شيء: غسل الأطباق والطبخ والتنظيف”، في تنمر واضح على اللاعبة.
بالمقابل، أدانت الجمعية الفرنسية للصحفيات الرياضيات واتحاد الصحفيات الرياضيات في فرنسا التعليق التي أُدلي به، وقال الاتحادان في بيان مشترك يوم الخميس إن “التعليقات الجنسية والمعادية للنساء ليس لها مكان في المنافسة الدولية”، ولم يطلبوا صراحةً فرض عقوبات عليه، لكنهم ذكّروا حالة إيقاف المعلق البريطاني بوب بالارد بعد تعليقه الذي أدلى به خلال حدث سباحة في دورة الألعاب الأوليمبية في باريس.
الصور والمقاطع “ذات الدلالات الجنسية” للمتسابقات
رغم تحذير الرئيس التنفيذي لخدمة نقل أحداث أولمبياد باريس يانيس إكساركوس، المصورين من التقاط صور “ذات دلالات جنسية” للمشاركات في التظاهرة الدولية، مطالباً بأن يتم التعامل مع تغطية منافسات الجنسين بطريقة متساوية.
وقال “إكساركوس” إنه رغم التعليمات التي تم تقديمها للمصورين منذ العام الماضي إلا أن الأيام القليلة الماضية كشفت بأن بعضهم ما زال يحاول التقاط صور من هذا النوع للمتسابقات، كما اضطرت هيئة البث الأولمبية الرسمية، الأسبوع الماضي، إلى تحذير مشغلي الكاميرات من تصوير الرياضيات الإناث أو تأطيرهن بطرق جنسية.
وعلى الرغم من هذه التحذيرات، قال إكساركوس إنه لا يزال يتم تصوير النساء في بعض الأحداث بطريقة يمكنك من خلالها تحديد أن الصور النمطية وإن التمييز الجنسي لا يزال قائمًا، وأضاف أنه غالبًا ما يتم الحكم على الرياضيات الأوليمبيات بناءً على مظهرهن لا على أدائهن.
حيث رصد فريق “تحقق” مجموعة حسابات في منصة “تيك توك” تنشر مقاطع ذات “دلالات جنسية” لأجساد اللاعبات أثناء أداء المنافسات والتمارين.
وتظهر المقاطع أجساد اللاعبات من زوايا معينة وبطرق توحي بمعانٍ جنسية، وتولد مئات الآلاف من المشاهدات، مما يعزز استغلال أجسادهن لأغراض أخرى، على سبيل المثال، حصد مقطع فيديو للاعبة القفز العالي الروسية إليزافيتا بتروفا أكثر من 100 ألف مشاهدة، بينما حصلت مقاطع أخرى على ما بين 100 ألف و200 ألف مشاهدة على حسابات أخرى.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يرفق البعض تعليقات صوتية تشجع المشاهدين على التفاعل بتعليقات تحمل ذات الطابع الإيحائي، وقد لوحظ أن معظم التعليقات على هذه الفيديوهات تحتوي على إيحاءات جنسية تستهدف اللاعبات، وبعد مراقبة أقسام التعليقات على أكثر من 100 منشور، أصبح من الواضح أن بعض المستخدمين قد ذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال التعليق بشكل مباشر بطريقة موحية جنسيًا على حسابات الرياضيات الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة صفحاتهم على إنستغرام، مما يساهم في تعزيز ثقافة التحرش الرقمي واستغلال الرياضيات لأغراض غير أخلاقية.
النساء الرياضيات في وسائل الإعلام
على الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزته الرياضة النسائية والرياضيات الإناث، والإمكانات التي تتمتع بها هذه النساء، إلا أن تصوير هؤلاء الرياضيات في وسائل الإعلام كان خاضعًا للتشييء (بمعنى أن يتم التعامل معهن أو النظر إليهن كما لو كانوا أشياءً بلا حياة أو إرادة، بدلاً من اعتبارها كائنات حية ذات حقوق وكرامة)، وإخفاء قدراتهن الرياضية وتميزهن مقارنة بالرياضيين الذكور أو الرياضات الرجالية. وعلى الرغم من النمو الهائل والشعبية التي حظيت بها الرياضة النسائية، إلا أن الرياضيات الإناث ما زلن يعتبرن أدنى من الرياضيين الذكور، وأنه مقارنة بالرياضيين الذكور لا يزال هناك هوس بجسد الرياضيات الإناث بدلًا من مهاراتهن الرياضية.
وبحسب دراسة لموقع “Sciencedirect” حول كيفية تأثير وسائل الإعلام على التفاوت الجنسي في الرياضة، فإن التغطية الإعلامية غالبًا ما تعزز الصور النمطية الجنسية، حيث تركز بشكل أكبر على مظهر الرياضيات بدلًا من إنجازاتهن الرياضية، فيتم تقديم الرياضيات في كثير من الأحيان من خلال عدسة الجمال أو الأدوار التقليدية للمرأة، مما يقلل من تقدير إنجازاتهن الرياضية ويعزز تصورات نمطية سلبية حولهن.
إن التغطية الرياضية قوية للغاية في تشكيل المعايير والصور النمطية حول الجنس، وتتمتع وسائل الإعلام بالقدرة على تحديد هذه المعايير، وتعزيز التغطية المتوازنة للرياضات الرجالية والنسائية والتصوير العادل للرياضيين – بغض النظر عن الجنس.
وتواجه النساء في الرياضة، خاصة أولئك اللواتي يتفوقن على مستوى عالمي، تحديات إضافية نتيجة للتعليقات والتصوير النمطي، وهذه التحديات قد تؤثر على كيفية تلقيهن للدعم والاحترام اللائق، وقد تمنعهن من الحصول على فرص متساوية في التغطية الإعلامية والرعاية، وفق الدراسة.
في الختام، ربما حققت أولمبياد باريس 2024 التكافؤ بين الجنسين من حيث مشاركة الرياضيين/ات، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لمعالجة التحيز الجنسي المستمر والتصوير السلبي للرياضيات الإناث في وسائل الإعلام. ومن خلال تحدي هذه الصور النمطية وتعزيز التغطية العادلة، يمكننا خلق بيئة أكثر شمولاً وإنصافاً لجميع الرياضيين/ات، بغض النظر عن الجنس.